كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أَمَّا قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} فَهُوَ اسْتِبْعَادٌ لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِيئَاسٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ، وَفَسَّرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْهِدَايَةَ بِالْإِلْطَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ: بِخَلْقِ الْمَعْرِفَةِ. قَالَهُمَا الرَّازِيُّ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ، فَأَمَّا الْإِرْشَادُ فَقَدْ أُوتُوهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ، وَلَوْلَاهُ لَمَا كَأن لايمَانِهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ مَعْنًى، وَالصَّوَابُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى اسْتِبْعَادُ هِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ وَإِيئَاسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَوَجْهُ الِاسْتِبْعَادِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تعالى فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْحَقِّ هِيَ أَنْ يُقِيمَ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ مَعَ عَدَمِ الْمَوَانِعِ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى طَلَبِ الْمَطْلُوبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ؛ وَلِذَلِكَ آمَنُوا مِنْ قَبْلُ: وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ثُمَّ كَفَرُوا مُكَابَرَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَمُعَانَدَةً لِلرَّسُولِ حَسَدًا لَهُ وَبَغْيًا عَلَيْهِ. أَوِ الْمَعْنَى: بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ تَكُونُ هِدَايَةُ مَنْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي تَبَيَّنَ بِهَا الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا لِغَلَبَةِ الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَكَانُوا بِذَلِكَ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِاسْتِحْبَابِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ طَرِيقَتَانِ، إِحْدَاهُمَا شَهَادَتُهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ: هِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا عَازِمِينَ عَلَى اتِّبَاعِهِ إِذَا جَاءَ فِي زَمَنِهِمْ، وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِ الْعَلَامَاتُ وَظَهَرَتْ فِيهِ الْبِشَارَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَعَانَدُوهُ بَعْدَ مَجِيئِهِ بِالْبَيِّنَاتِ لَهُمْ وَظُهُورِ الْآيَاتِ عَلَى يَدَيْهِ، وَاللهُ لَا يَهْدِي أمثال هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْجَانِينَ عَلَيْهَا. وَوَضَعَ الْوَصْفَ الظَّالِمِينَ مَكَانَ الضَّمِيرِ لِبَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنَ الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَجِبُ سُلُوكُهُ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، فَذَكَرَهُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ ادِّعَائِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَنَكُّبِ هَؤُلَاءِ بِاخْتِيَارِهِمْ لِطَرِيقِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَقْلُ وَهُدَى النُّبُوَّةِ بَعْدَ مَا عَرَفُوهُ بِالْبَيِّنَاتِ هُوَ نِهَايَةُ الظُّلْمِ.
(قَالَ): وَالْهِدَايَةُ هُنَا هِيَ الَّتِي أُمِرْنَا بِطَلَبِهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَهِيَ الْإِيصَالُ إِلَى الْحَقِّ؛ لِأَنَّ سَائِرَ مَعَانِي الْهِدَايَةِ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الإيمان بِالرُّسُلِ- فَالرَّسُولُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلْجِنْسِ- وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ وَإِخْلَاصِهِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ حُظُوطِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا فِي الدِّينِ وَاسْتِبْدَالِهِمْ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ مَا وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْبِدَعِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: كَيْفَ تَرْجُو يَا مُحَمَّدُ هِدَايَةَ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ لَكَ ظَنًّا أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ جَعَلَتْهُمْ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا جِئْتَ بِهِ بَعْدَمَا عَلِمْتَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِحَقِيقَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الإسلام بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وَتَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ. أَقُولُ: وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَهِ الطَّرِيقَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ كَالشَّخْصِ لِتَكَافُلِهَا كَمَا قَرَّرَهُ مِرَارًا، فَالْمُرَادُ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كُفْرُ مَجْمُوعِ الْحَاضِرِينَ وَأمثالهِمْ بَعْدَ إِيمَانِ مَجْمُوعِ سَلَفِهِمْ لَا أَنَّ كَلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ.
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَعْنَةُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ سُخْطِهِ، وَلَعْنَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ إِمَّا سُخْطُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا وَإِمَّا الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَالَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ مَعْنَى اللَّعْنَةِ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ فَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ: لَعَنَهُ أَهْلُهُ: طَرَدُوهُ وَأَبْعَدُوهُ وَهُوَ لَعِينٌ طَرِيدٌ وَبِذَلِكَ فَسَّرْنَا الْكَلِمَةَ فِي قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ} [2: 88] وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ ذُكِرَ فِيهَا اللَّعْنُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ هُنَاكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَمَا قَالَهُ هُنَا هُوَ التَّفْسِيرُ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ؛ فَإِنَّ الطَّرِيدَ لَا يُطْرَدُ إِلَّا وَهُوَ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: اللَّعْنُ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ. وَذَلِكَ مِنَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ عُقُوبَةٌ وَفِي الدُّنْيَا انْقِطَاعٌ مِنْ قَبُولِ رَحْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ. وَمِنَ الْإِنْسَانِ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ: {أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [11: 18] {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ} [24: 7]. اهـ. وَقَوْلُهُ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ أَيْ بِالطَّرْدِ لِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ فِي الْأَصْلِ. وَالْجُمْهُورُ يُفَسِّرُونَ لَعْنَ اللهِ لِمَنْ يَلْعَنُهُ بِطَرْدِهِ مِنْ جَنَّتِهِ أَوْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيِ الْخَاصَّةِ- إِذِ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ مَبْذُولَةٌ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ- وَيُفَسِّرُونَ السُّخْطَ وَالْغَضَبَ مِنْهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ تعالى مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَدُلُّ فِي الْبَشَرِ عَلَى الِانْفِعَالَاتِ تُفَسَّرُ بِآثَارِهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ، وَلَكِنَّ السَّلَفِيِّينَ يُعِدُّونَ هَذَا تَأْوِيلًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ كَغَيْرِهَا شُئُونٌ لِلَّهِ تعالى لَا يُدْرِكُ الْبَشَرُ كُنْهَهَا، وَتِلْكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي فُسِّرَتْ بِهَا آثَارُهَا، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ اللُّغَةِ. وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَانَ سَلَفِيَّ الْعَقِيدَةِ فِي سِنِيهِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَفْنَاهُ فِيهَا، فَلَا يُبَالِي بِإِمْضَاءِ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ التَّنْزِيهِ، وَكَأَنَّهُ رأى أَنَّ تَفْسِيرَ مِثْلِ عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ بِعَلَيْهِ السُّخْطُ أَقْرَبُ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِعَلَيْهِ الطَّرْدُ، فَمَا قَالَهُ أَقْرَبُ إِلَى الذَّوْقِ الصَّحِيحِ فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ. وَمِثْلُهُ قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [16: 106] فَعَبَّرَ عَنْ وُقُوعِ الْغَضَبِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ بِعَلَى، وَعَنِ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ بِاللَّامِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا قوله تعالى: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ لَا يَلْعَنُونَهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَلْعَنُونَهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مَجْلَبَةٌ لِلَّعْنَةِ بِطَبْعِهَا مِنْ كُلِّ مَنْ عَرَفَهَا، وَصَحَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ لَعْنِ الْكَافِرِ وَالْمُبْطِلِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ إِنْ كَأن لا يَلْعَنُهُ، كَأَنَّهُ يُفَسِّرُ اللَّعْنَ بِاسْتِحْقَاقِهِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [29: 25] وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنُونَ.
خَالِدِينَ فِيهَا أَيْ فِي اللَّعْنَةِ أَيْ يَكُونُونَ مَطْرُودِينَ، أَوْ مَسْخُوطًا عَلَيْهِمْ إِلَى الْأَبَدِ، أَوْ فِي أَثَرِهِ، وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا؛ لِأَنَّ عِلَّتَهُ مَا تَكَيَّفَتْ بِهِ نُفُوسُهُمُ الظَّالِمَةُ، وَهِيَ مَعَهُمْ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَالشَّيْءُ يَدُومُ بِدَوَامِ عِلَّتِهِ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مِنَ الْإِنْظَارِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ وَالْإِمْهَالُ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ ذَنْبِهِمْ وَتَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الظُّلْمِ الَّذِي دَنَّسُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَتَرَكُوهُ مُسْتَقْبِحِينَ لَهُ نَادِمِينَ عَلَى مَا أَصَابُوا مِنْهُ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ بِمَا صَارَ لِلْإِيمَانِ الرَّاسِخِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالتَّصْرِيفِ لِإِرَادَتِهِمْ، أَوْ أَصْلَحُوا نُفُوسَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَمُدُّ الإيمان وَتُغَذِّيهِ وَتَمْحُو مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ وَتُثْبِتُ فِيهِ أَضْدَادَهَا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَنَالُهُمْ مِنْ مَغْفِرَتِهِ مَا يُزَكِّي نُفُوسَهُمْ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ، وَيُصِيبُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مَا يُؤَهِّلُهُمْ لِدُخُولِ جَنَّتِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا مِثَالُهُ: عَطَفَ الْإِصْلَاحَ عَلَى التَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْعَمَلِ لَا شَأْنَ لَهَا وَلَا قِيمَةَ فِي نَظَرِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ جَرَى الْقُرْآنُ عَلَى عَطْفِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَيْهَا عِنْدَ ذِكْرِهَا أَوْ وَصْفِهَا بِالنَّصُوحِ، وَتَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُظْهِرُونَ التَّوْبَةَ بِالنَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الذَّنْبِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى مَا كَانُوا تَابُوا عَنْهُ، ذَلِكَ بأنه لَمْ يَكُنْ لِلتَّوْبَةِ أَثَرٌ فِي نُفُوسِهِمْ يُنَبِّهُهُمْ إِذَا غَفَلُوا كَيْ لَا يَعُودُوا إِلَى مَا اقْتَرَفُوا، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى اتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِإِصْلَاحِ شَأْنِهِمْ وَتَقْوِيمِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ تعالى مَا هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ لِلتَّائِبِينَ مَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُقَاوَمَةِ الْحَقِّ وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِالْكَيْدِ وَالتَّشْكِيكِ وَبِالْحَرْبِ وَالْكِفَاحِ، أَوِ الْكَلَامُ عَلَى عُمُومِهِ لَا يَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، فَازْدِيَادُ الْكُفْرِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُنَمِّيهِ وَيُقَوِّيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَاوَمُ بِهَا الإيمان، فَالْكُفْرُ يَزْدَادُ قُوَّةً وَاسْتِقْرَارًا وَتَمَكُّنًا بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، كَمَا أَنَّ الإيمان كَذَلِكَ. وَقوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} يُعِدُّونَهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، إِذْ هُوَ مُخَالِفٌ فِي الظَّاهِرِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلِمِثْلِ قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [42: 25] فَقَالَ الْقَاضِي وَالْقَفَّالُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أنه تعالى لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ مَنْ كَفَرَ وَبَيَّنَ أنه أَهْلُ اللَّعْنَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أنه لَوْ كَفَرَ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ تِلْكَ التَّوْبَةِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الأولى تَصِيرُ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا فَلَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. اهـ. مِنَ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ بِتَصَرُّفٍ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَلْيَقُ بِالْآيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ مُطَّرِدٌ فِي الْآيَةِ سَوَاءٌ حُمِلَتْ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ، أَوْ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا إِذَا أَشْفَوْا عَلَى الْهَلَاكِ، فَكَنَّى عَنْ عَدَمِ تَوْبَتِهِمْ بِعَدَمِ قَبُولِهَا تَغْلِيظًا فِي شَأْنِهِمْ وَإِبْرَازِ حَالِهِمْ فِي صُورَةِ الْآيِسِينَ مِنَ الرَّحْمَةِ أَوْ لِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا نِفَاقًا لِارْتِدَادِهِمْ وَزِيَادَةِ كُفْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُدْخِلِ الْفَاءَ فِيهِ. اهـ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْبَةِ التَّوْبَةُ عَنِ الذُّنُوبِ، فَهِيَ لَا تَنْفَعُهُمْ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَرُوِيَ فِي الْآيَةِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ وَقَالَ عَنْ هَذَا الَّذِي قُلْنَا أنه اخْتَارَهُ: أنه أَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ (قَالَ): وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فِيهِمْ نَزَلَتْ، فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هِيَ فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا إِذَا كَانَتْ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ مِنْ حُكْمِ اللهِ فِي عِبَادِهِ أنه قَابِلُ تَوْبَةِ كُلِّ تَائِبٍ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَكَانَ الْكُفْرُ بَعْدَ الإيمان أَحَدَ تِلْكَ الذُّنُوبِ الَّتِي وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهَا بِقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالَّذِي لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ هُوَ الِازْدِيَادُ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْكُفْرِ لَا يَقْبَلُ اللهُ تَوْبَةَ صَاحِبِهِ مَا أَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا مَا أَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ وَضَلَالِهِ.
فَأَمَّا إِنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ وَكُفْرِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. اهـ. ثُمَّ بَيَّنَ ضَعْفَ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ حَتَّى رِوَايَةَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّوْبَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَجَزَمَ: (أَيِ ابْنُ جَرِيرٍ) بِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَإِنَّ إِيمَانَهُ يَكُونُ مَقْبُولًا وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ، فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَهِيَ أَظْهَرُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ التَّوْبَةِ وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّنْبِ الَّذِي تِيبَ عَنْهُ، وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَجْهٌ يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ التَّوْبَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا. فَقَدْ ذُكِرَ فِي الدَّرْسِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ ازْدَادُوا كُفْرًا قَدْ يَحْدُثُ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَلَمٌ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْحَقِّ وَقَدْ يَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ الْأَلَمُ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَالشُّرُورِ. قَالَ: فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْبَةِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُصْلِحُوا أَمْرَهُمْ وَيُخْلِصُوا لِلَّهِ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَنُصْرَتِهِ، فَالتَّوْبَةُ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْمُحِقِّينَ لَا يَقْبَلُهَا اللهُ تعالى؛ يَعْنِي أنه قَدْ يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ نَوْعٌ مِنَ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَمِيعِ مَا لَصِقَ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْأَوْزَارِ، وَلَيْسَ هَذَا عَيْنُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ هَذِهِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ هِيَ تَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَبِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْيٌّ لِلتَّوْبَةِ وَهَذَا إِثْبَاتٌ لَهَا، بَلْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ النُّفُوسَ قَدْ تُوغِلُ فِي الشَّرِّ وَتَتَمَكَّنُ فِي الْكُفْرِ حَتَّى تُحِيطَ بِهَا خَطِيئَتُهَا وَتَصِلَ إِلَى مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ قَدْ جَحَدَ الْحَقَّ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا وَضَلَّ عَلَى عِلْمٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالتَّوْبَةِ وَأَنْ يُحَاوِلَهَا وَلَكِنْ يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ وَالْحَوَائِلِ دُونَ قَبُولِهَا لِلْخَيْرِ وَالْحَقِّ مَا يَكُونُ هُوَ السَّبَبُ لِعَدَمِ قَبُولِهَا فَإِنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ الْمُسْتَلْزِمَ لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِ التَّائِبِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَطَاءِ الْجُزَافِ وَالأمر الْأُنُفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمُوَافَقَةِ سُنَنِ اللهِ فِي الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ أَنْ يُحْدِثَ لَهَا الْعِلْمُ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ أَلَمًا يَحْمِلُهَا عَلَى تَرْكِهِ وَمَحْوِ أَثَرِهِ الْمُدَنِّسِ لَهَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ يُحْدِثُ فِيهَا أَثَرًا مُضَادًّا لِذَلِكَ الْأَثَرِ. وَبِهَذَا تَكُونُ التَّوْبَةُ مُعِدَّةً صَاحِبَهَا وَمُؤَهِّلَةً لَهُ لِلْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذَّنْبِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى مَحْوِ سَبَبِهِ وَهُوَ تَدْنِيسُ النَّفْسِ وَتَدْسِيَتُهَا {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [91: 9، 10] فَإِذَا بَلَغَتِ التَّدْسِيَةُ مِنْ بَعْضِهَا مَبْلَغًا تَتَعَذَّرُ مَعَهُ التَّزْكِيَةُ عَلَى مُرِيدِهَا أَوْ مُحَاوِلِهَا صَحَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ صَاحِبِ هَذِهِ النَّفْسِ. مِثَالُ ذَلِكَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ النَّاصِعُ يُصِيبُهُ لَوَثٌ فَيَسْتَقْبِحُ ذَلِكَ صَاحِبُهُ فَيَغْسِلُهُ فَيَنْظُفُ، فَإِذَا كَانَ اللَّوَثُ قَلِيلًا وَبَادَرَ إِلَى غَسْلِهِ بُعَيْدَ طُرُوئِهِ يُرْجَى أَنْ يَزُولَ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ. وَلَكِنَّ هَذَا الثَّوْبَ إِذَا دُسَّ فِي الْأَقْذَارِ سِنِينَ كَثِيرَةً حَتَّى تَخَلَّلَتْ جَمِيعَ خُيُوطِهِ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهَا فَاصْطَبَغَ بِهَا صِبْغَةً جَدِيدَةً ثَابِتَةً تَعَذَّرَ تَنْظِيفُهُ وَإِعَادَتُهُ إِلَى نَصَاعَتِهِ الأولى. وَبَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَمَا قَبْلَهَا دَرَجَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الطَّرَفَيْنِ بِقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [4: 17، 18] تِلْكَ حَالَةُ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الْهَازِئِينَ بِالدِّينِ الْمُتَقَلِّبِينَ فِي الْكُفْرِ الْعَرِيقِينَ فِي الشَّرِّ؛ وَلِذَلِكَ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الرُّسُوخَ فِي الضَّلَالِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ أَوِ الْحَصْرِ فَقَالَ: وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ الْمُتَمَكِّنُونَ مِنَ الضَّلَالِ حَتَّى كَأَنَّهُ مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَحَسْبُكَ بِضَالٍّ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَاتِ، فَالْأَوَّلُ مَنْ يَتُوبُونَ تَوْبَةً مَقُبُولَةً مِنَ الْكُفْرِ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فَيَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ. وَالثَّانِي مَنْ يَتُوبُونَ تَوْبَةً غَيْرَ مَقْبُولَةٍ إِمَّا لِفَسَادِهَا فِي نَفْسِهَا وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ عَنْ بَعْضِ أَعْمَالِ الْكُفْرِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا، أَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ حَتَّى يُدْرِكَهُمُ الْمَوْتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا إِذَا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ كُلَّ عَمَلٍ {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [25: 23] فَهُوَ لَا يُفِيدُ فِي نَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَرْتَقِ رُوحُهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى دَرَجَةِ الإيمان الصَّحِيحِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهَا لَا تَرْتَقِي فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْهَاوِيَةِ الَّتِي تُسَمَّى النَّارَ وَالْجَحِيمَ إِلَى دَرَجَةٍ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا الَّتِي تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى فَرْضِ أَنْ يَمْلِكَهُ بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ جَزَاءَ نَجَاتِهِ وَالْعَفْوَ عَنْهُ كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ مَعَ الْحُكَّامِ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أيضا. قال تعالى فِي وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [57: 15] بَلْ لَا تُقْبَلُ الْفِدْيَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ أيضا، كَمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَامَّةٍ، وَلَيْسَتْ عِلَّةُ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنْ كَوْنِ اللهِ تعالى غَنِيًّا عَنِ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُفْتَدَى بِهِ، فَإِنَّهُ تعالى غَنِيٌّ أيضا عَنْ إِيمَانِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا عِلَّتُهُ أنه تعالى لَمْ يَجْعَلْ أَمْرَ نَجَاةِ النَّاسِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَلَا أَمْرَ فَوْزِهِمْ بِنَعِيمِهَا مِمَّا يَكُونُ بِالْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ كَمَالٌ يُبْذَلُ وَعَظِيمٌ يَنْفَعُ، بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمْرًا مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ دَاخِلِيٍّ، مُتَعَلِّقًا بِجَوْهَرِ النَّفْسِ، فَمَنْ زَكَّاهَا بالإيمان مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَفْلَحَ وَمَنْ دَسَّاهَا بِالْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ خَابَ وَخَسِرَ- رَاجِعْ تَفْسِيرَ {وَاتَّقُوا يَوْمًا} [2: 48، 123] إِلَخْ- وَتَفْسِيرَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [2: 254] إِلَخْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْجَزَاءِ مِنَ التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى الذَّهَبِ وَلَا إِلَى إِنْفَاقِهِ، لِأَنَّ الْأَشْقِيَاءَ لَا نَصِيرَ لَهُمْ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوْلِيَاءُ فِي غِنًى بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ عَمَّنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ أنه لَا طَرِيقَ لِلِافْتِدَاءِ لَوْ أُرِيدَ. لَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ غَيْرُ هَذَا.